الأربعاء، 20 أبريل 2011

كهل !



... !

كانَ يقعُد هُناك,على كرسيّهِ الأسود المعتاد,وأمامهُ طاولتِه الخشبية الذي أهلكها المطر,وقهوتُه الباردة ظلّت تنتظِر,كنتُ أرقبُه من بعيد, وهوَ يحمِل الجريدة بسطورِها السوداء الغامِقة,كان يقرأها بشغف, وكأنه يقرأ الجريدة لأولًّ مرة, اتكأ ثم احتساها دفعة واحدة, أحس بمرارتِها, فعبس وجهه ثم تلذذ بقوله: اممم مممه.
خلع نظارتِه, وصارَ يرقُب الذاهبين والغادين,ليتني كنتُ من هؤلاء الذين ترقبهم, تناولَ الجريدة من جديد , وبيّا نارٌ تقِيد في قلبيِ تهلكني, وتستعيد.
 ووجهه الأسمر حيثُ خطّت فيه تجاعيدُك, شعرِك الأسود بخصلِه البيض الرمادية, طولُك الفارِع, واستنادِك الدال على أناقتِك,فهم شباب لم يتقنوا وقارَك, وأناقتِك ,وحضورَك الباهِر, الذي يسرقُ الأضواءَ كلّها إليك, وتبقى الشمسُ محمّلة بالآهات لأنك أفقدتها الشعاع بحضورِك,ظللتُ أرقبُك وتنتشي روحي لمجيئك.
 لخُطاك التي تدوس على قلبِي كرآقصة الباليه, وموسيقى هادئة,قد طلبتَ النادِلة أن تدير الموسيقى على صوتِها, كنتَ تلذذ باستماعِكَ لها , وتحرّك أصابِعك على أنغامهِا, وتغمِض عيناك وتتخيّلها أمامَك على هذا الكرسي المجرّد منها, ومن كل أنثى, كنتَ تماماً كمن يحلم بِها, بمجيئها,وكأن الزمان لن يأذن أبداً , وكأنها رحلت من دون رجعة.
مابالِك؟! ألا ترآهنّ كثيراتٌ من حولِك, جميلات, رشيقات, في قمّة البياض والدلال ,ومن تهواها لا تمّت للجمالِ بصلة, هكذا رأيتُها هكذا تخيّلتها, وماشأني بِها.
هل أحببتُك ؟., يالبأسي ياليأسي مِنك,ومازلتَ ترقُبها تخطو كالحلُم تضمّك بقوة وتصافحك بحرارة لتطفئ لهيب الشوق في قلبِك , ألا حان لكَ أن تفيق فهي لن تجيء, فالآن لكَ مايعادِل عاماً كاملاً كما أخبرتني النادلة بنفسِ المكان ونفس الزمان,وبنفسِ الشوق والحنين تنتظِرها,وترتقِبها .
 وتنتظِر أن الطريق الممتلئ بالبشر , الغادي مع القمر , كم حملَ ذكرياتٌ وصورّ , مشؤومٌ هذا الطريق, لن يأتِ بها صدقني .
أحببتُها, نعم أحببتُها, بل إني عشقتًها, حديثها الهادئ الصاخب, الباكِ الضاحك, المليء المتعطِش, الضعيف القوي,قدومها إلي, حنانُها تلمّسيه حارقاً بين يدي, دلعها الذي تحملُه فقط إلي, ولا تظهره إلا إليّ.
خوفها,غيرتُها,غضبها , ضحكاتها, دمعاتُها الساخنة حينَ تخف علي , كانت تتلمّس خصلاتُ شعري, وتعد شيبي وتقول إلي: يا من تعني لي كل شيء.
مدللة حد الترف , يديها ناعمة لم يمسّها لا الجفاف ولا حتى الكلف , بيضاء كبياضِ الصُحف ,أنقى من الماء , وأعذب من العسل, وأجمل من زرقة السماء , تطيرُ على قلبي كفراشاتِ النحل.
 تأخذني مني إليها, وتهديني الأمل , تدنيني منّها حتى لا أملّ , تبعدني عنها وتهجرني , وتكون أقرب إلي من أنفاسيِ, تنسيني الكلل, فارعة الطولِ , وخصِرُها كخاتمٍ كما برمةُ قلم , عطرُها يملأني, ويعبثُ في ملابِسي , لا ينحلّ.
عيناها أشد سوداً من الليل الحالِك , شعرُها المتطاير فوقَ كتفيها غجريٌ أحمرٌ قاتِم, جوريُ خدودِها, صغيرةٌ عمرٍ , بشفاةِ ورديّة , وثنايا ضحكةٍ طفوليّة , براءةٌ بعناديّة, دلعٌ وأنثويّة, تجري خلف الأمطار ,تتساقط على قمّة رأسها , حتى تصل إلى أسفلَ قدميها.
تمطرني حناناً وعطفاً , وتأخذني إليها , ونجري , وأعود شاباً في العشرين , ليس إلا , حتى أن كهولتي , نسيتُها , ودستِها بقدمي , ومللتُها , ولكنّي ومن دونِها الآن .. عُدتُ كهلاً ..لأنها ذهبت ..وتركتنِي , أعيشُ أحلامي لوحدي, وانتظِر موتي بشغف , حتى لا أشغِل قلبِي بها, وتسألينني لما أحبُّهــا؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق